واقع الاعتراف بالابادة الجماعية والقانون الدولي - مرة أخرى

قمت بتاريخ 14/1/2025 بتقديم محاضرة بعنوان "واقع الاعتراف بالابادة الجماعية والقانون الدولي- مرة اخرى" تناولت فيه موضوع الاعتراف الاوكراني بالابادة الجماعية ولم استطع وقتها التعليق او الكتابة بخصوص هذا الموضوع انذاك بسبب الفوضى العاطفية على وسائل التواصل الاجتماعي وانعدام القدرة على التفريق بين الحقيقة والتضليل وبعد انتهاء العاصفة الفيسبوكية بخصوص هذا الاعتراف أصبح من الممكن أن اقوم بتلخيص بعض محاور تلك المحاضرة وباختصار شديد مع توفر المعلومات التفصيلية ضمن المحاضرة المذكورة على قناة التلغرام الخاصة بمحاضراتي لمن أراد المزيد منها.

ابرز ما تناولته في هذه المحاضرة كان كما يلي:

1) شهدت الحالة التي رافقت عملية نشر خبر الاعتراف بالابادة الجماعية الشركسية من قبل البرلمان الاوكراني الكثير من التهويل و المبالغات الامر الذي اسقط فئة قليلة من ابناء الشعب الشركسي في غياهب التضليل تحت غطاء العاطفة الهوجاء تم تجاوز أسئلة في غاية الأهمية مثل ما هي الاستفادة الحقيقة من هذه الاعترافات؟! ما هي الخطوات التي تليها؟! كيف يمكن أن يشكل هذا الاعتراف و غيره ضغطا على روسيا الاتحادية ويحملها على إعطاء تنازلات للشعب الشركسي؟!

2) بطبيعة الحال فإن الاستفادة من هذا الاعتراف وغيره ترتبط بطبيعة النظام الدولي الحالي ولكن قمت بتقديم الافتراض التالي:

لو فرضنا اننا تمكنا من تجاوز كل العقبات القانونية والتنظيمية وتم ايصال مضمون هذا الاعتراف الى محكمة العدل الدولية (رغم انها تختص بالدول ومنظمة الامم المتحدة وما يتفرع منها من اجهزة ووكالات) ولكن فرضا تمكن الشراكسة من رفع قضية لدى هذه المحكمة تتعلق بالابادة الجماعية الشركسية ولو تخيلنا انه تمكنت القضية من عبور الاربع مراحل وصولا إلى مرحلة اصدار الحكم ونالت فعلا حكم منها بادانة الإمبراطورية الروسية ومن يرثها من الدول اي روسيا الاتحادية ورفضت روسيا الاعتراف بهذا الحكم فما العمل حينها؟!

اولا: تشكل مثل هذه الأحكام ضغط على الدولة التي تتعرض لها ولكن روسيا الاتحادية فعليا مفروض عليها اكثر من 16 ألف عقوبة دولية وعليه لا يبدو أن مثل هذه الأحكام مؤثرة عليها ناهيك عن قضية الانتقائية في الالتزام باحكام محكمة العدل الدولية بالنسبة للدول فهنا لا نتحدث عن أفراد وللعلم حتى الولايات المتحدة الأمريكية لا تلتزم بهذه الاحكام.

ثانيا: لو فرضنا أن روسيا الاتحادية رفضت الالتزام او قبول هذا الحكم فما العمل؟! عادة يتم نقل الموضوع إلى الأمم المتحدة وتحديدا مجلس الأمن بهدف اخذ قرار ملزم لكن لو وصل هذا الحكم إلى هناك فإنه لسوء الحظ إحدى الدول دائمة العضوية التي تملك حق النقض الفيتو هي روسيا الاتحادية وفي حال استخدام هذا الحق قبلها فإن قرار الحكم هذا يصبح في خبر كان.

3) كما يلاحظ بان حالة الاندفاع العاطفي نحو ما اعتبره البعض نصرا مؤزرا نتيجة الاعتراف الاوكراني يبدو من الناحية الواقعية بعيد عن ذلك، و لا بد من الاشارة هنا الى مثال قريب نوعا ما وهو ما قامت به دولة أرمينيا التي رفعت في العام 2010 قضية بخصوص الابادة الجماعية الارمنية ضد الدولة التركية لدى محكمة العدل الدولية الا انها ولغاية هذا اليوم لم تتحصل على اي شيء على رغم من اعتراف 30 دولة وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية بها، إلا أنه يمكن القول بان القضية واجهت تحديات قانونية معقدة، كما أن محكمة العدل الدولية تتعامل مع هذه القضايا وفق القوانين الدولية وليس على أساس التاريخ السياسي أو الاعتراف بالإبادة الجماعية من عدمه، و الجميع يدرك بان أرمينيا خسرت في العام 2023 إقليم ناغورني كاراباخ لصالح أذربيجان المدعومة من تركيا تحديدا اي لم تشفع لها تلك الاعترافات بمنع تركيا من دعم أذربيجان.

4) في الحقيقة فإن أوراق الضغط على الكرملين من هذه الناحية تنحصر في الاعتراف بالابادة الجماعية الشركسية الصادر من برلمان جمهورية القبرديه و الاديغية وذلك لانها اعترافات صادرة من احدى اجزاء المنظومة السياسية داخل روسيا الاتحادية ذات نفسها.

5) حالة الانتصار هذه كانت فقط على صفحات الفيس بوك اي انها معارك طواحين الهواء الدونكشوتية المعتادة ولا شيء على ارض الواقع، فمثلا لم تتطرق ولا وكالة إعلامية عالمية مثل CNN او NBC او الجزيرة او غيرها إلى هذا الاعتراف في إشارة واضحة إلى عدم الاكتراث فيه لانه جاء وفق المثل الشعبي الاردني "ضربة مقفي" حيث جاء بعد انهيار الحلم الاوكراني في إقامة أوكرانيا الكبرى وضم غرب شركيسيا على اعتبار بانها أراضي قوزاق الكوبان بالإضافة الى التخوف من شرعية القرار الصادر من البرلمان الاوكراني المنتهي ولايته والذي قد يلغى في حال وجود برلمان جديد كما يلاحظ ان الدولة الأوكرانية لو كانت جادة او صادقة في نواياها لقامت بالتوجه الى محكمة العدل الدولية كما فعلت جنوب أفريقيا في حرب غزة الأخيرة.

ان المعاناة الحقيقة في هذا الاعتراف تمثلت في الاندفاع العاطفي لطبقة من يعتبرون انفسهم المثقفين من الشراكسة نحو هذا الاعتراف الاوكراني والتحريض على توجيه الشكر والتقدير و العودة إلى الحديث عن دعم الجمهوريات الشركسية في حالة عكست التناقض الفكري واكدت ان اشباه المثقفين ممن اوجدتهم القومية التقليدية البغيضة هم للاسف احد اسباب الفوضى الفكرية للشعب الشركسي تحديدا بالمهجر والتي تسبب الضياع و التفكك لابناء الشعب الشركسي وتكرار تلك الأخطاء ولا نعلم كم يمكن للشعب الشركسي و مصالحه المصيرية أن يتحملها وكما قال جوستاف لوبون في كتابه سيكولوجية الجماهير: "إن الجماهير لم تعطش أبدا للحقيقة، يبتعدون عن الأدلة التي لا تناسب ذوقهم ، مفضلين تأيد الخطأ ... من يستطيع أن يمدهم بالأوهام فهو سيدهم بسهولة ؛ كل من يحاول تدمير أوهامهم هو ضحيتهم دائما".

كما ذكرت هذا ملخص لابرز نقاط المحاضرة المذكورة والموجودة بالكامل على قناة التلغرام.

الدكتور علي كشت