top of page
بحث

القومية الشركسية والإسلام السياسي: اغتيال النخبة ومعركة الهوية

  • Dr Ali M. Kasht
  • 19 يوليو
  • 3 دقيقة قراءة

في تسعينيات القرن الماضي، وفي أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي، شهد العالم موجة صاعدة من الهويات القومية والإثنية، ولم يكن الشعب الشركسي في شمال القوقاز استثناءً من ذلك. فبعد عقود من القمع السوفييتي للهوية القومية، ظهر التيار القومي الشركسي كرد فعل طبيعي على الفراغ الفكري والعقائدي الذي خلفته الأيديولوجيا الشيوعية.

ولم تعد القومية الشركسية مجرد مشاعر عاطفية، بل أصبحت إطارًا حديثًا لفهم الذات الشركسية، استنادًا إلى تاريخ عريق وحضارة إنسانية عميقة. كانت القومية، بالنسبة للشراكسة، وسيلة للبقاء، وأداة لاسترداد الأرض، ولتعزيز مكانتهم السياسية والثقافية في القفقاس وفي الشتات.

تحديات ما بعد الاتحاد السوفيتي

غير أن ظهور القومية الشركسية ترافق مع بروز تيارات فكرية منافسة، أبرزها التيار الإسلامي السياسي الذي جاء في شكل أيديولوجيا جاهزة، منفصلة عن السياق المحلي، وتقدم هوية "فوق قومية"، تتجاوز الخصوصيات العرقية والثقافية. وقدّم الخطاب الجهادي للتيار الإسلامي تصورًا مبسطًا للعالم يقوم على ثنائية الخير والشر، دار الإسلام ودار الكفر، المجاهد والشهيد مقابل الجبان والخائن.

هذا الخطاب استقطب شريحة من الشباب الذين نشأوا في بيئات تعاني من الفقر، والإهانة، والتهميش، وانعدام الأفق. وهكذا، تحوّل الصراع الفكري بين مشروعين:

مشروع قومي مدني: يسعى لإعادة إحياء الهوية الشركسية، وبناء سردية قومية مستندة إلى اللغة والتاريخ والثقافة.

مشروع أسلمة متشددة: يهدف إلى تفكيك البنى القومية لصالح فكرة "الأمة الإسلامية" بلا قوميات.

القومية الشركسية: تعبير عن الذات الجمعية

في هذه اللحظة التاريخية الحرجة، مثّلت القومية الشركسية تعبيرًا عن الذات الجمعية لشعب يسعى لحماية لغته وخصوصيته الثقافية، في مواجهة مشروع أممي-ديني شمولي، ينزع الشرعية عن الهويات القومية غير العربية.

وبينما كانت الحركات القومية الشركسية تسعى لبناء سردية حداثية جامعة، ظهر الإسلام السياسي بوصفه تهديدًا مباشرًا، لا لموسكو فحسب، بل للهوية الشركسية ذاتها.

اغتيال النخبة: القتل كأداة للصراع الفكري

من أخطر ما واجهته الحركة القومية الشركسية، كان اغتيال رموزها الثقافية والفكرية على يد متطرفين إسلاميين. وقد مثّل ذلك تجسيدًا واضحًا لمفهوم "العدو القريب" في الفقه الجهادي:

القومي: خصم أيديولوجي داخلي ينازع على عقول الناس.

الروسي: عدو خارجي يمكن تأجيل قتاله.

ومن أبرز الشخصيات التي استُهدفت:

أصلان تسيبينوف (29 ديسمبر 2010)

أستاذ جامعي، دكتور في اللغويات، وأحد أبرز منظري القومية الشركسية. روج للثقافة الشركسية، نظم مهرجانات فلكلورية، ودافع عن الخابزا كقانون أخلاقي جامع.

قال مقولته الشهيرة:

> "الأديان تأتي وتذهب، لكن الأمة تبقى".

وقد دفع حياته ثمنًا لمواقفه، حيث اغتاله متطرفون بحجة نشر "الدعاية الوثنية".

أنس موساييفيتش بشيخاتشيف (15 ديسمبر 2010)

مفتي جمهورية قباردينو بلقاريا، وأحد الأصوات البارزة في الدفاع عن الإسلام المعتدل. تحدث أربع لغات، وكتب أكثر من 50 دراسة علمية. كان ناقدًا شرسًا للتطرف، كما انتقد بجرأة ممارسات أجهزة الأمن الروسية ضد المسلمين.

من أقواله:

"الإسلام كزهرة جميلة... لا يمكن لأحد أن يقول إن لها رائحة كريهة".

كازبك جيكييف وبوريس جيركوف

شخصيات إعلامية وأكاديمية بارزة، اغتيلت أيضًا ضمن موجة العنف ضد النخبة الشركسية.

تواطؤ الدولة وصمت المجتمع

رغم خطورة هذه الاغتيالات، لم تُصدر السلطات الروسية موقفًا واضحًا يدينها بوصفها جرائم كراهية ضد الهوية القومية. بل بدا في حالات كثيرة أن الدولة تغض الطرف، وربما استخدمت المتطرفين لتصفية الحسابات مع القوميين.

الصمت الرسمي، وغياب المواقف الحازمة من المؤسسات الشركسية، أنتج إحساسًا عامًا بالخذلان، وفرض رقابة ذاتية على الخطاب القومي بين الشباب.

الخلاصة:

ان القومية الشركسية تبقى مشروعًا للكرامة والبقاء والخصوصية، بينما شكّل الإسلام السياسي تيارًا شموليًا استهدف تفكيك هذا المشروع واستغل من قبل السلطات الروسية التي ترى في القوميين خطرًا طويل الأمد على وحدة الدولة (مثل المطالب بالحكم الذاتي أو الاعتراف بالإبادة أو العودة من الشتات)، بينما يرون المتشددين مشكلة أمنية مؤقتة.

لذا أصبحت الساحة الفكرية الشركسية ميدان صراعٍ حادّ بين:

- مشروع قومية مدنية حداثية.

- مشروع أسلمة متشددة خارجة عن السياق.

الاغتيالات لم تكن مجرد حوادث، بل رسائل دموية ضد أي محاولة لبناء وعي قومي شركسي حر.

وقد دفع القوميون الشراكسة أرواحهم من أجل شعبهم، بينما خذلهم الكثير من أبناء جلدتهم، إما بالصمت أو بالتواطؤ.

لقد خدم التيار الإسلامي المتشدد مصالح روسيا بشكل مباشر، عبر إضعاف القومية الشركسية وتفتيت وحدتها الداخلية، وتحويل الغضب الشعبي عن الدولة إلى اتجاهات داخلية مدمرة. في المقابل، أضر هذا التيار بالمجتمع الشركسي، وفتح الباب أمام موجات من القتل والانقسام، ما أدى إلى إضعاف الجبهة الثقافية والسياسية للأمة الشركسية.

ورغم كل هذه التحديات، تبقى القومية الشركسية حقيقة ثابتة، وصوتًا حيًا يعبر عن ذاكرة أمة وحقها في البقاء والهوية والكرامة.

وختامًا، فإن الهوية القومية لا تُبنى بالخوف، ولا تُصان بالصمت، بل تتطلب شجاعة تُضاهي من رحلوا في سبيلها.


بقلم: د. علي كشت

Comments


Commenting on this post isn't available anymore. Contact the site owner for more info.

نموذج اشتراك

اشترك ليصلك كل جديد!

  • Facebook
  • Instagram
  • YouTube

©2024 by Dr Ali Kasht official website.

bottom of page