روسيا الاتحادية ... مستقبل دولة متعددة الاعراق
- Dr Ali M. Kasht
- 20 يونيو
- 6 دقائق قراءة
كتب الأكاديمي والمفكر الروسي فاليري تيشكوف مقالة مثيرة للاهتمام في العام 2013 بعنوان ما هي الأمة الحديثة؟! ونشرت، انتقد فيها محاولات الاستيعاب الإجباري للقوميات المتعددة في روسيا وتحويلها إلى دولة بسيطة الشكل ذات قومية واحدة مهيمنة وأكد ان نماذج بوتقة الصهر melting pot المستخدمة في الغرب لا تناسب روسيا متعددة الأعراق مؤكدا ان التعددية القومية تشكل مصدر قوة لا ضعف بالنسبة للدولة الروسية، ورغم ما جاء في المقال يشكل نظرة واقعية مطلوبة للحفاظ على ديمومة الدولة الروسية دون الانحراف نحو الصراعات الا انه ما شهدته السنوات ما قبل كتابة المقال وما بعده أظهرت ان النظام السياسي الروسي الحالي يخرج من المنظومة الاتحادية ذات التعددية القومية إلى منظومة تكرس بل وتفرض حقائق مغايرة مثل روسيا الكبرى أو العالم الروسي وهو ما يعني إعادة تكرار التجربة السوفيتية في طمس الميزات اللغوية والثقافية والدينية لبقية مكونات المجتمع المدني الروسي وهي تجربة اثبت فشلها وكان تفكك الاتحاد السوفييتي خير مثال على نتائجها.
ان واقع الحياة السياسية في ظل توجهات النظام الحالي وتأثير النخب السياسية والاقتصادية فيه تحديدًا وتقويض مفهوم الشعب الروسي متعدد الاعراق وما يرافق ذلك من تبعات سلبية يفتح الباب على مصرعيه على ضرورة إعادة النظر من قبل صانع القرار الروسي في سلوكه في ظل العملية العسكرية الخاصة في اوكرانيا و ما بعدها والتي تلعب نهايته دور هام في بداية جديدة للدولة الروسية مستقبلا.
1.البنية الدستورية لنظام السياسي الروسي يتكون الاتحاد الروسي من 89 كيان فدرالي ومنهم 24 جمهورية قومية تمثّل معظم الجمهوريات مناطق إثنية غير روسية، برغم أنه ثمة العديد من الجمهوريات بأغلبية روسية، و يشير دستور الاتحاد الروسي لعام 1993 في ديباجته ان شعب هذه الدولة يتكون من مجموعة من الشعوب متعددة الاعراق ويمكن القول أن المواد من 1 ولغاية 16 من الدستور الروسي تحدد طبيعة الدولة الروسية، وأنها دولة ديمقراطية اتحادية قائمة على القانون، ونظام حكم جمهوري، وتعدد الأيديولوجيات والأديان، وتأكيد سيادة القانون وحددت المواد من (130-133) صلاحيات الحكم الذاتي المحلي، وعلاقته بالحكومة المركزي وتقاسم السلطة رسميًا بين السلطة المركزية والكيانات المكونة للدولة والجدير بالذكر بان الدستور الروسي شهد تعديلات عدة آخرها كان في 14 اذار من العام 2020.
في عامي 1994-1998، وقّعت الجمهوريات القومية عدد من الكيانات الفيدرالية اتفاقيات ثنائية مع الحكومة الفيدرالية الروسية، حددت تقاسم الصلاحيات والخصوصية القومية وترسيخ مبدأ "السيادة داخل الفيدرالية" ومن ابرز الأمثلة على ذلك ما عرف باسم المسار التتارستاني و جمهورية الاديغية عامي 1994 و 1992.
ادى وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة عام 2000 الى تشديد مركزية الدولة وتقوية هرم السلطة وتقليص صلاحيات الجمهوريات واصبح يتم تعيين رؤساء الجمهوريات بدلًا من انتخابهم وتم تعديل تسميتهم ليصبح "رئيس ادارة منطقة" والغيت معظم الاتفاقيات الخاصة أو تم تعديلها لتتوافق مع القانون الفيدرالي الموحد بحجة أن معظمها خالف الدستور من حيث تحويل صلاحيات دستورية من المركز إلى الجمهوريات.
شكلت هذه الاجراءات وحسب رأي بعض الباحثين المختصين الروس خرقا واضحًا للدستور الروسي بحد ذاته حيث انتقد أندريه ميدوشيفسكي (Andrei Medushevsky) أستاذ العلوم السياسية والقانون الدستوري في المدرسة العليا للاقتصاد في موسكو، صراحة تقليص الصلاحيات الدستورية للجمهوريات والمناطق ذات الوضع الخاص داخل روسيا ويرى أن بوتين دمّر النموذج التعددي التوافقي الذي نص عليه دستور 1993، واستبدله بـ"رئاسوية بيروقراطية فوق-دستورية" واعتبر أن إلغاء الانتخابات المباشرة لحكام الكيانات الفدرالية، وفرض لغة روسية موحدة، وتقليص التعليم بلغات الأقليات، كلها خطوات تعني إلغاء الفدرالية الفعلية وتحويل روسيا إلى دولة وحدوية مقنّعة قائلًا: "ما حدث ليس تعديلًا للنظام الفدرالي، بل إلغاءه بالتقسيط” اما د. تاتيانا إيلينا فلاديميروفنا (Татьяна Елена Владимировна) فقد انتقدت بوضوح دستورية القرارات التي سحبت صلاحيات الجمهوريات (مثل إلغاء انتخاب الرؤساء، وسحب صلاحيات اللغة والثقافة) ووصفت ما حدث بانه "تفريغ الفدرالية الروسية من مضمونها".
2.دور النخب السياسية والاقتصادية الحالية في تراجع النظام الاتحادي:
رغم التوافق بين الباحثين بان القوى المؤثرة في صناعة القرار في الكرملين تتلخص في الجيش والصحافة والاعلام و الكنيسة والنخب السياسية والاقتصادية (جماعات المصالح) والرأي العام والاحزاب السياسية الا انه يمكن القول بكل واقعية بان النخب السياسية والاقتصادية الحالية هي من تملك الكلمة العليا تلك النخب المقسمة ما بين السيلوفيكي (Силовики) والاليجارشية ان صح التعبير السيلوفيكي وهي ترمز الى رجال السياسية المنحدرة جذورهم من الأجهزة الأمنية والاليجارشية والذين هم طبقة رجال الأعمال الكبار الذين يملكون ثروات هائلة، وغالبًا ما تكون قد نشأت في فترة انتقال روسيا من الاقتصاد المخطط إلى اقتصاد السوق بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
هذه النخب هي من سيطرة في السنوات الأخيرة على المشهد السياسي في روسيا الاتحادية وكان تاثيرها واضحا على صانع القرار في الكرملين في تقليص صلاحيات الجمهوريات القومية وتراجع مفهوم الدولة متعددة القوميات حيث قوض السيلوفيكي الفدرالية سياسيًا عبر الهيمنة الأمنية والمركزية بوصفهم أدوات الدولة الأمنية، فرضوا نموذجًا مركزيًا مفرطًا تحت مبرر "الحفاظ على وحدة الدولة" ومحاربة الانفصال والإرهاب، بينما الأوليغارشية قوضوها اقتصاديًا عبر الاحتكار المركزي للثروة وأداة للسيطرة غير المباشرة على الجمهوريات اقتصاديًا، مما أضعف استقلالها المالي والإداري، وتحالفهما كان سببًا بنيويًا في فشل روسيا في أن تكون فدرالية حقيقية وفقًا لدستور 1993.
4.خطورة ما يحدث اليوم:
قد كان للقوميات المتعددة في روسيا الاتحادية الدور الهام الذي لعبته الاقليات العرقية والدينية في التحولات السياسية منذ انهيار الاتحاد السوفيتي واعتماد اول رئيس لروسيا الاتحادية على دعم ممثلي وقادة الجمهوريات والاقاليم القومية من خلال منحهم قدر كبير من الصلاحيات وحرية اتخاذ القرار مما ساهم في ظهور دعوات انفصالية مثل القضية الشيشانية التي شكلت مثالاً واضحاً للدور الفعال للاقليات في النظام السياسي الروسي، والتي كانت مفتاح نجاح الرئيسي للرئيس الثاني لروسيا الاتحادية فلاديمير بوتين من خلال توحيد صفوف الشعب الروسي خلفه، وتحولها فيما بعد الى ركيزة اساسية للاستقرار بعد ان كانت القضية الشيشانية عاملا مقلقا للسياسة الداخلية الروسية، كما ان النجاح الأكبر الذي يعود للرئيس بوتين تمثل في قدرته على كبح جماح صلاحيات رؤساء وقادة الجمهوريات والاقليم المكونة للاتحاد الروسي، وهو الأمر الذي اوقف حالة الانفلات والفوضى التي سادت ساحة الاتحاد الروسي، الا ان انجراف النخب السياسية والاقتصادية نحو الماضي القيصري المهيمن على فكرهم واتخاذهم لعدد من الاجراءات والتدابير التي تمس حقوق ومطالب الاقليات العرقية والدينية واعتمادهم في اخماد معارضة هذه الاقليات على جعل النخب السياسية الممثلة للاقليات القومية في حالة من التنافس وقدرته على تحويل هذا التنافس الى سباق في الولاء، كل هذه السياسات تعيد الى الأذهان التجربة السوفيتية السابقة التي لم تنجح في احتواء الاقليات القومية نتيجة اعتمادها على استيعابه بدل من تعزيز تواجده فى النظام السياسي، ولا بد من القول أن سياسية الصهر الاجتماعي، أو "بوتقة الصهر" بالقوة قد اثبتت فشلها، كما أوضحت خبرة تفك الاتحاد السوفيتي الذي مارس سياسة طمس الميزات اللغوية والثقافية والدينية على مدى سبعين عاماً، وادى ذلك الى قيام الباحثين وصانعي السياسات العامة بالتعامل مع تحدي التعددية الثقافية أو التعددية الاجتماعية واليات التوفيق بين وحدة الدولة من ناحية، واحترام التنوع الاجتماعي والثقافي (القومي) من ناحية أخرى، وابتكار الصيغ المؤسسية المناسبة لتحقيق ذلك، والتي يعبر عنها مفهوم الديمقراطية التوافقية.
5.أهمية التنوع القومي في روسيا الاتحادية:
رؤية فاليري تيشكوف النقدية الإصلاحية تشكل أولى خطوات الفهم الصحيح لما يجب أن تكون عليه روسيا الاتحادية اي تلك الدولة التي يشكل التنوع القومي فيها مصدرا للقوة لا عامل قلق أو خوف من الانفصال والتدخل الخارجي كما تحاول اليوم ان تظهره النخب السياسية والاقتصادية الحالية تحقيقا لمصالحها، لقد ركز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطاباته الأخيرة على أهمية هذا التنوع وانه مصدر للقوة لا للضعف كما جاء في العديد من خطابات عندما شدّد على أن "التقاليد والعادات واللغات لجميع المجموعات العرقية هي كنز لا يقدّر بثمن"، وأن هذا التنوع هو أساس قوة روسيا ومجده وتحدث عدة مرات عن جذور روسية متعددة القوميات "إنّ "العناصر الماديّة الثقافية تشير بدقة وموثوقية إلى أنّ روسيا تشكلّت كدولة متعددة القوميات منذ خطواتها الأولى"، مؤكّدًا أن تاريخ الدولة مرتبط بالنسيج الثقافي المتنوّع منذ بدايتها كما اكد أثناء لقائه بمشاركين في برنامج "زمن الأبطال" بأن "مغزى هذا اليوم يكمن في خلود الشعب الروسي، وكل شعوب دولتنا متعددة القوميات، وأشار ايضا في مراسم تكريم أبطال العمل وجوائز الدولة إلى أن "يوم روسيا يرمز إلى الطريق العظيم للدولة الروسية عبر التاريخ، وتنوّع وثقافة ووحدات مناطقنا تعبير عن مصيرنا المشترك كشعب متعدد القوميات"، اذا فإن الشكل العام و الإطار الدستور يحتم على دولة روسيا الاتحادية ان تكون ذات نظام اتحادي يراعي ما ورد بالدستور من تنظيم ما بين المركز الفدرالي و الكيانات السياسية وتقاسم السلطة بالشكل الذي حدد بالدستور، أن عدم احترام الدستور والتقيد به يؤدي إلى نتائج سلبية خطيرة على المجتمع والدولة، بما في ذلك الفوضى، وعدم الاستقرار، وانتهاك حقوق الإنسان، وضعف سيادة القانون، أن رفض أو تقويض الصلاحيات الممنوحة للجمهوريات بحجة الخوف من النزعات الانفصالية والتفكك هو بداية الانهيار بحد ذاته وفق القاعدة الفقهية التي تقول "ما بني على باطل فهو باطل" و تعني أن كل أمر أو تصرف أساسه غير صحيح أو غير قانوني، فإن كل ما يترتب عليه أو يبنى عليه سيكون باطلاً أيضاً. ان انتهاء العملية العسكرية الخاصة في اوكرانيا سيكون لها انعكاساتها السلبية والايجابية على النظام السياسي الروسي وقد تشكل افكار تيشكوف وميدوشيفسكي وغيرهم أرضية مناسبة لبناء سياسي يهدف إلى الحفاظ على المكتسبات الدستورية للجمهوريات وفرض بدائل أو نماذج على ارض الواقع تلائم طبيعية النظام الروسي و تبعده عن شبهات العمالة للخارج و تعطي له بعد هام امام صانع القرار الروسي بدلا من المغامرات التي يقوم بها بعض الهواة تحت مسميات مختلفة تخدم فقط الرؤية الأمنية و المركزية للنخب التي تتبنى هذا المنظور، اليوم لا بد لابناء القوميات المتعددةفي روسياالاتحادية الحفاظ على مكتسباتهم الدستورية من خلال التنسيق فيما بينهم لتشكيل قوى مؤثرة في صناعة القراروهذا هو الحل الوحيد داخل هذه الدولة و عدم الرهان على الخارج الذي اثبت دوما انه يعمل وفق مصالحه فقط لا غير .
الدكتور علي كشت
Comments